بنفس الحدّة التي يقول فيها وائل الحلّاق "إنّ الغالبية العظمى من مسلمي العصر الحديث تتمنّى عودة الشريعة بشكل أو بآخر"، يمكن القول إنّ الغالبية العظمى من قرّاء "الدولة المستحيلة: الإسلام والسياسة ومأزق الحداثة الأخلاقي" سيرون فيه كتابًا في غاية الاستفزاز. تنبّه مترجم الكتاب عمرو عثمان لذلك فكتب في مقدمته بأنّ القارئ "قد يرفض بعض ما يطرحه المؤلّف في هذا البحث وربّما كله". ولا عجب، فكتاب الدولة المستحيلة الذي يشتمل على خلاصات أبحاث وائل الحلّاق في الدراسات الاسلاميّة هو بمثابة "دغدغة" جديدة لتنّين الشريعة القابع في كهف تراثنا الإسلاميّ الفسيح.
أطروحة كتاب الحلّاق بالغة البساطة: مفهوم "الدولة الاسلامية" مستحيل التحقق وينطوي على تناقض داخليّ، وذلك بحسب أيّ تعريف سائد لما تمثله الدولة الحديثة. إستحالة التحقق هذه تنطبق، في أطروحة الحّلاق، على ماضي المسلمين مثلما تنطبق على حاضرهم. "الدولة الإسلاميّة"، إذًا، لم توجد في التاريخ، ومن المستحيل لها أن توجد في الحاضر.
الحداثة "خطأ" من الصّعب تكراره
للوهلة الأولى، قد تدفع أطروحة الحلّاق، في مبناها اللفظي البسيط، لجهة تصنيفه في واحد من معسكرين منفصلين بينهما كثير من نقاط التلاقي: إمّا معسكر القائلين بشذوذ العرب أو المسلمين ووجودهم خارج مجال الديمقراطيّة الحيويّ وإستحالة أن يحكموا إلا بإستبداد شرقيّ متأصّل فيهم، أو في معسكر المتمحسين بغير وعي نقديّ لنموذج الحداثة الغربيّ، مطالبين على كلّ المنابر بتطبيقه من خلال الدفع باتجاه الوصول إلى دول "تفصل السلطات" وتتسم ممارسة السياسة فيها بـ"الشفافيّة".
والحال أنّ الحلّاق لا ينتمي إلى أيّ من المعسكرين، حيث أنّ استحالة "الدولة الإسلاميّة" في نظرية الحلّاق لا تنبع من "خلل" في الإسلام، بل من "خلل" في مشروع الحداثة الغربيّ في حدّ ذاته، بما يتشمل عليه من "جفاف روحاني" وأنماط إنتاج رأسماليّة وآليات ضبط وتحكّم تطوّرت تحت ظروف دقيقة ومحددة مكانيًا وزمانيًا، وبيروقراطيّة نجحت في إختراق المجتمع حتى آخر "ذات" فاعلة فيه، محوّلة الدولة إلى "ربّ الأرباب". ولعلّ الحلاق يقترب هنا من حدود السلفيّة الإسلاميّة التي تجزم بأنّ إدارة الشأن السياسيّ في أيّ فضاء اسلاميّ لا يمكن أن تتم إلا عبر أدوات إسلاميّة هي تتحقق من خلالها السيادة الإلهيّة المطلقة والموجودة في كلّ مكان.
غير أنّ ما يميّز الحلاق عن مفكري الحاكميّة الإلهيّة السلفيين هو اعتماد أطروحته على جهد علمانيّ بحت يؤكّد على إستحالة "إعادة شريط التاريخ إلى الوراء" ولا يقدّم مقابل هذا التأكيد تنازلات تمنعه من تفنيد مفاهيم أساسيّة في نظرية الدولة التي نشأت في أوروبا وتبيان عدم صلاحيّتها للمستعمرات التي تمّ تصديرها إليها. يُضاف إلى ذلك إعادة قراءة سوسيولجيّة تحاول التحرر من سطوة "الحداثة" لإثني عشر قرنًا من الحكم الإسلاميّ "الهادئ نسبيًا" والممتد من أرخبيل الملايو إلى حدود إسبانيا. من نقطة في قلب مشروع الحداثة الغربيّ، لا من مكّة أو المدينة، يأتي كتاب "الدولة المستحيلة" ليفرد على الطاولة جملة من الإدّعاءات الإشكاليّة على أقلّ تقدير.
المجتمع منتصرًا على الدولة
يعرف الحلاق جيدًا أين يذهب ليعثر على ما يساعده على إظهار الجانب السوداويّ لمشروع الدولة الحديثة. في مسعى من هذا النوع، يكون عند نيتشه الخبر اليقين، فالدولة "آلة جهنميّة جرى ابتداعها"، وهي "سرقت كلّ ما تملك"، وتكون لحظة تجليها الأمثل لا عندما تحمي "المواطن"، بل عندما تجنّده في قواتها المسلحة. وللدولة الحديثة خواص لا يمكن تخيلها من دونها، فهي "نتاج تاريخي محدد"، وصاحبة "إرادة سياديّة" يتم التعبير عنها من خلال القدرة على "إنتاج القوانين" وتطوير نظام إداري بيروقراطي يعهد لها، بكلمات ماكس فيبر، بالحقّ الحصري في استعمال القوّة و "مواصلة العمل" على الدوام.
سمحت الظروف السياسية والاقتصاديّة الأوروبيّة للدولة-القومية بأن تنتصر على المجتمع. فالدولة الحديثة هي، في واقع الأمر، ضدّ المجتمع، تكون حيث لا يكون، ولا تقبل التنافس معه على مسائل التمثيل والسيادة والتحكم. لم يتحقق انتصار الدولة هذا على المجتمعات الإسلاميّة الذي ظلّت "غير مخترقة" ومحتفظة بنسبة عالية من الاستقلالية على مدار قرون طويلة. لم تكن المجتمعات الإسلامية معزولة عن آليات "إنتاج القوانين" وإدارتها، بل إنّ المجتمع الإسلامي كان مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بهذه الآليات التي تصدّر لها طبقة من القضاة والمشرّعين الخارجين "من المجتمع وإليه".
لا فصل إذًا في "الحكم الإسلاميّ" الذي كان قائمًا ما قبل الحداثة بين "ما هو كائن" وبين "ما يجب أن يكون"، بل إنّ "الحكم الإسلامي" في أغلبه الأعم كان حكمًا "من الأسفل إلى الأعلى". ولذلك، تعتبر أطروحةُ الحلّاق محاولات المسلمين الحديثة لتبني نموذج غربيّ للحكم عبر دول قائمة على مبدأ "فصل السلطات" الحديث تنازلاً منهم عمّا ضمنوه لأنفسهم عبر قرون طويلة من الحكم الإسلامي الذي يرى فيه الحلاق تطبيقًا أكثر واقعيّة وأخلاقية لمبدأ "الفصل بين السلطات" من الدول الحديثة التي قضت فيها "الثورة الإدارية" على آخر جزء من الحقيقة في إشاعة "الفصل بين السلطات". فمكامن القوّة في الدولة الحديثة يملكها موظفون لم ينتخبهم أحد، ولقد بلغ فيها الاستثناء والشذوذ عن مبدأ "الفصل بين السلطات" مبلغًا يمكن معه اعتبار المبدأ برمّته "مجرد قطعة من الخردة".
ميشيل فوكو: إلى الخلف دُر!
يسهّل "وهم الدولة" في المنطقة العربية، إلى حد بعيد، عملية "تسليع" ميشيل فوكو ومداخلاته حول علاقة السلطة بالمعرفة و "العقاب والمراقبة" و"تقنيات الذات" واساءة استعمالها في منطقتنا من العالم عبر عمليّات تفسير أو تبرير أو استقراء. فإعدام المتّهمين بالتخابر مع الإحتلال الإسرائيلي في الشوارع، على سبيل المثال لا الحصر، قد يجري تبريره عبر ربطه بمستهّل كتاب "المراقبة والمعاقبة" الذي أورد الحكم الباريسي الذي صدر على داميان في الثامن من آذار سنة ١٧٥٧ بأن "يسحب ويقاد ويجري قرصه بالقارصة ثم تحرق يده بنار الكبريت ويمزق جسده ويقطّع بواسطة أربعة أحصنة".
ولعلّ الجزء المتعلّق بتقنيات الذات عند فوكو في كتاب "الدولة المستحيلة" إسهام جذّاب وضروري لتبيان المساحة التي يمكن تطبيق "الرؤية الفوكويّة" عليها دون غيرها، الأمر الذي يعبّد الطريق أمام استنتاج مفاده أنّ "الدول" العربية هي دول ما-قبل-فوكويّة لم تخضع فيها الذات العربية المسلمة لنظام الضبط والتحكم المعقد الذي خضعت له الذات الغربيّة من خلال مؤسسات أهمّها المدرسة والجامعة والسجن والجيش وبيروقراطية الدولة. لا يمكن لأشكال الحكم والسيطرة المشوّهة والناقصة الموجودة حاليًا في العالم الإسلامي، إذًا، أن تُقارب باستعمال أدوات خاصّة بدول أخرى، وبل وبنطاقات مركزيّة أخرى هي في الغرب "عصر التنوير" الذي أعاد فيه الأوروبيّون تخيّل تاريخهم الخاص في معزل عن باقي شعوب العالم.
النطاق المركزيّ البديل، والخاص بالمسلمين، هو "الشريعة". وهي، بحسب أطروحة الحلاق، "لا تمثّل فقط ندًا للتنوير والنطاق الأخلاقي الناتج عنه، بل تملك أيضًا إمكانية أن تكون ينبوعًا أخلاقيًا هاديًا إلى أبعد الحدود". وهنا، مرّة أخرى، يبدو أنّ الحلاق يلعب بالنار. فإذا سلّمنا مسنودين بالفشل الذريع الذي شاب المشاريع "العلمانية" العربية الحديثة بعدم جواز إسقاط فوكو على مجتمعاتنا التي دمّر الاستعمار أنماط عيشها واقتصادها وأسقط عليها نموذج الدولة الغربي، فهل يعني ذلك غياب الحاجة لتوليفة نقديّة فوكويّة عربيّة تستطيع كشف أسباب "الهدوء النسبي" التي وَسمت قرون "الحكم الإسلامي" الممتدة؟ هل يكفي الأساس الأخلاقيّ للشريعة الإسلاميّة -على حدّ إدعاء الحلّاق- لنفي الحاجة إلى البحث في العلاقة بين السلطة والمعرفة الإسلاميتين؟
ماذا عن "داعش"؟
لا يمكن التطرّق لمواضيع مثل "الحكم الإسلامي" والشريعة من دون التعريج على التنظيم الفتيِّ الذي يتحكم اليوم في مساحة تعدل مساحة الأردن موزّعة بين سوريا والعراق، وما غياب هذا التنظيم عن أطروحة الحلاق إلا فسحة إضافية لنقد هذه الأطروحة والبحث في تطرحه من إشكاليّات. والواقع أنّ هذا التنظيم بأفكاره وأفعاله يقع، من دون شك، في صميم جدالات الأصالة والتحديث وآفاق التقدّم في العالم العربيّ. "الدولة الإسلاميّة" التي يعتبرها الحلّاق استحالة متناقضة ذاتيًا تعبّر اليوم أيضًا، شئنا أم أبينا، عن "داعش" الذي أعلن الدولة وأقام الخلافة. فما الذي يمكن أن يعنيه إدخال "داعش" إلى المعادلة؟
من جهة، يثبت بزوغ فجر التنظيم الداعشيّ أنّ الفشل المصاحب لعمليات بناء "الدولة الحديثة" في الوطن العربيّ، بما يصاحبها من عمليات تفكيك وإعادة تنظيم وخلق للسياسيّ باعتباره عصرًأ جديدًا، هو فشلٌ عميقٌ وبنيويّ لا يمكن التعامل معه بمنطق "الترقيع". كما ويثبت إلتحاق مئات المسلمين الغربيين بهذا التنظيم أنّ إشكالاً حقيقيًا يشوب الدولة الحديثة الغربية في بلادها الأصليّة، ويرتبط هذا الإشكال بواقع العولمة الذي استفاض المفكّر الفرنسيّ أوليفييه روا في شرح علاقته بالاسلام في كتابه "عولمة الإسلام".
ومن جهة أخرى، يمكن إعتبار "داعش" نموذجًا عن الخطر الذي تكتنفه محاولات تقديم الشريعة الإسلاميّة باعتبارها "ينبوعًا أخلاقيًا هاديًا إلى أبعد الحدود" بإمكانه أن يقدم بديلاً جريئًا عن نموذج التنوير والدولة الحديثة. وهنا لابدّ من طرح الأسئلة: من المسؤول عن تحديد حدود هذه الشريعة، ومن يملك حقّ التعبير عنها، ومن يفسّرها ويحدد مقاصدها، ومن يشرح بطريقة عملانية سُبل تطويعها للوصول إلى نظام حكم إسلاميّ عصريّ؟ ومن يضمن عدم تحوّلها إلى وحش يحرق الأخضر واليابس؟ هذا ما لا يجيب عنه الحلّاق.
هل هناك من مخرج؟
تتميّز أطروحة كتاب "الدولة المستحيلة" بكثير من الجرأة. لكنّها تفشل، بسبب هذه الجرأة تحديدًا، في تسليط الضوء على مفاهيم أساسيّة يمكن لها أن تظهر عيوب مشروع الحداثة الغربيّ بصورة أقلّ سوداويّة. فالدولة التي انتصرت، في الغرب، على مجتمعها، أضطرت أيضًا لتقديم تنازلات عبر استيعاب "المجتمع المدني"، وهو مفهوم تاريخي تطوّر ليرسم معالم المساحة الوسيطة بين الدولة والمجتمع. أين هو المجتمع المدنيّ من "الدولة المستحيلة"، والأهم، ما هي طبيعة فرص نشوء "مجتمع مدني إسلاميّ"؟ ألا يفترض بهذه الفرص أن تكون عالية على اعتبار أنّ الشريعة ضمنت للمسلمين على مدار اثني عشر قرنًا فصلاً بين السلطات محررة إيّاهم من سؤال "لماذا يجب أن تكون أخلاقيًا؟" الذي حيّر فلاسفة التنوير؟
ملامح الحلّ التي يرسمها الحلّاق للمأزق الذي يقع فيه المسلمون اليوم، لجهة إستحالة أن تقوم عندهم "دولة إسلاميّة"، وإستحالة أن "يعود التاريخ إلى الوراء" وضرورة أن يعترف العالم بأيّ صيغة يرتضونها لأنفسهم مهما كانت مختلفة عن الرؤية السائدة، هي ملامح عامّة متعلقة بحلّ واسع يحلّق أبعد من فضاءات السياسة الواقعية (realpolitik)، حيث يؤكّد أنّ الأزمة "ليست حكرًا على الحكم الإسلاميّ والمسلمين".
ما الذي يجب على نخب العرب والمسلمين فعله إذًا؟ هذا هو ما يظلّ غائمًا وضبابيًا بل وتطارده أشباح السؤال الذي طرحه المفكر العربي محمد عابد الجابري في "اشكاليات الفكر العربي المعاصر" حين قال: هل ما زلنا نحن العرب في وضعيّة تسمح لنا بـ"الاختيار" بين ما نسمّيه "النموذج الغربي" وما نحلم به من نموذج "أصيل" نستعيده أو نستوحيه من تراثنا الفكري والحضاريّ؟ طرج الجابري سؤاله الصعب كي يقول إنّ "النموذج الغربيّ" واقع عالميٌ فرض نفسه علينا ولا يمكننا أن نشيح بوجهنا عنه. يجيب الحلاّق على نفس السؤال ولكن من الإتجاه المعاكس: هذا الواقع العالميٌ الذي فرض نفسه علينا، والذي لا يمكننا أن نهرب منه "إلى الوراء"، لن يسمح لنا بالدخول إلا وفق شروط شديدة الإجحاف، وربّما مستحيلة.